دولي

طرزان وابن آوى في السياسة الدولية!

 

في رسالته إلى الجمعية الفدرالية، استدعى الرئيس بوتين إحدى شخصيات الكاتب البريطاني، كيبلينغ، في وصفه لتصرفات صغار الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، التي تسعى لإرضاء ربيبتها.

ولد الكاتب والشاعر والروائي البريطاني، روديارد كيبلينغ (1865-1936)، في الهند البريطانية، حيث يعد كتاب الأدغال (1894) The Jungle Book، أشهر ما كتبه، وتم تجسيده في عدد كبير من الأعمال الفنية.
ويحكي الكتاب قصة الصبي ماوغلي “أو طرزان في الأفلام المستوحاة من الرواية”، الذي يعيش في الأدغال، ويتعامل مع مملكة الحيوان، في إطار شريعة الغاب، حيث يستخدم الكاتب الحيوانات وسلوكها كرموز لطرح قضايا مبدئية وقيمية، إلا أن قراءات أخرى كثيراً ما ذهبت لتفسير القصص برموز سياسية واجتماعية.
من بين الشخصيات الخيالية التي يقدمها كيبلينغ في كتابه خادم ذليل مطيع يحمل اسم، تاباكي، وهو ابن آوي، مستعد لتنفيذ جميع أوامر سيده النمر “شير خان” ، النمر الشرير الذي قتل والد ماوغلي، واسم شير خان يعني بالهندية “الزعيم النمر”.
يقول الرئيس الروسي في رسالته: “إنهم يناوشون روسيا هنا وهناك بلا سبب. ويجتمع حولهم، بالطبع، كثير من صغار الـ (تاباكي)، ممن يعوون حول (شير خان)، سعياً لإرضاء سيدهم.. كم كان كيبلينغ كاتباً عظيماً”.
لم يلجأ الاتحاد السوفيتي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع أي دولة من دول العالم سوى للضرورة القصوى، مثلما حدث على سبيل المثال مع أوروغواي ؛بمبادرة منها العام 1935، ومع دول المحور إبان الحرب العالمية الثانية، ومع يوغوسلافيا ،اعتراضاً على سياسيات جوزيف تيتو، عام 1949، ومع ألبانيا 1961، ومع إسرائيل بعد حرب 1967.
في 17 أبريل الجاري، طردت جمهورية التشيك 18 موظفاً في السفارة الروسية، ممن زعمت أنهم يعملون لدى المخابرات الروسية تحت غطاء دبلوماسي، وصرح وزير الخارجية، جان هاماتشك، بضرورة مغادرتهم البلاد خلال 48 ساعة.
جاء ذلك إثر اشتباه السلطات التشيكية بتورط مزعوم للاستخبارات الروسية في انفجار وقع في مستودع للذخيرة بالقرب من قرية فربيتيتسي التشيكية عام 2014. ويأتي ذلك أيضاً بعد أن ألغى وزير الخارجية التشيكي زيارة إلى موسكو، كان من المزمع خلالها مناقشة إمكانية شراء التشيك للقاح “سبوتنيك V”.
بالتزامن طالب مكتب رئيس بلدية براغ بإعادة جزء من الأراضي التي “احتلها السوفييت” وتقع الآن ضمن أراضي السفارة الروسية في براغ منذ عام 1968.
تستند براغ في اتهاماتها الباطلة إلى نسخ من جوازات سفر مواطنين روسيين هما بيتروف وبشيروف،عملاء للمخابرات الروسية على حد زعم التشيك، وهما من قاما بالتسميم المزعوم لسكريبال في بريطانيا!، تؤكد زيارتهما للمستودع المذكور. إلا أن هذه الجوازات تظهر الآن، ولم تظهر أثناء التحقيق الذي نسب الحادث إلى الإهمال.
من جانبها، وفي اليوم التالي لاندلاع الأزمة الدبلوماسية، 18 أبريل، أعلنت روسيا طرد 20 دبلوماسياً تشيكياً رداً على قرار براغ. وطالبتهم بمغادرة البلاد بانقضاء يوم 19 أبريل. وفي بيان الخارجية الروسية أشارت الوزارة إلى أن التشيك “في سعيها إلى إرضاء الولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية فرض الأخيرة عقوبات جديدة على روسيا، تخطّت السلطات أصدقائها على الطرف الآخر من المحيط”.
في الوقت نفسه تسعى التشيك الآن إلى طلب الدعم من هولندا وبريطانيا وسائر دول الاتحاد الأوروبي والناتو للتضامن معها في مواقفها “الدبلوماسية” ضد روسيا، ويقف ماكرون صائحاً: “لابد أن نرسم خطوطاً حمراء لروسيا”، بينما ترضخ ميركل لإملاءات واشنطن بشأن “السيل الشمالي-2″، مرغمة على وضع مصالح الشعب الألماني الاقتصادية في المرتبة الثانية بعد مصالح واشنطن السياسية.
هناك خطوط عامة يمكن أن توضح لنا صورة واضحة لما يجري تدبيره لا لروسيا وحدها، وإنما للنظام العالمي الراهن بأسره، والذي يتغيّر لا كل يوم بل كل ساعة.
أعلنت هيئة الأمن الفدرالية الروسية عن توقيف شخصين في موسكو، 17 أبريل، كانا يخططان لانقلاب عسكري، مدعوماً بسيناريو “الثورات الملونة” في بيلاروس، باغتيال الرئيس، ألكسندر لوكاشينكو، وإشراك عناصر من القوميين المحليين والأوكرانيين. تعليقاً على ذلك، صرح بوتين في الرسالة السنوية للجمعية الفدرالية، بأن المحاولات السافرة من بعض الدول لفرض إرادتها على بلدان أخرى باتت أمراً عادياً، لكنه “سلوك يتحول حالياً إلى أمر أخطر بكثير”، وتابع الرئيس أنه “من اللافت أن الغرب بأسره لا يدين مثل هذه الأعمال الفجة، ويتظاهر الجميع وكأن شيئاً لم يكن على الإطلاق”.
بعد فشل ذريع لمحاولات غربية لزعزعة الاستقرار الداخلي في روسيا، يعود المعارض الروسي، أليكسي نافالني، لتصدر عناوين الأنباء بعد دخوله في إضراب عن الطعام بسبب ما يدعي أنه “لا يحصل على رعاية طبية”. في الوقت نفسه، وبعد نقله إلى مستشفى السجن، أكدت لجنة الأطباء أنه لا يعاني من أي أمراض تهدد حياته، وأن وضعه الصحي “مقبول”. لكن معارضة روسية هزيلة في الخارج قبل الداخل، ترغو وتزبد بما تسميه “انتهاكات” لحقوق الإنسان، دون أن يطرف لها جفن لما حدث ويحدث حول العالم من انتهاكات صارخة لحقوق البشر في نقاط الصراع، ونتيجة للانقلابات، والثورات الملونة، التي دبرها الغرب من قبل في جميع أنحاء العالم.
تشتعل وسائل الإعلام والمنصات الأوكرانية بشحن واسع النطاق ضد إقليم الدونباس، خاصة بعد زيارة للرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، لخنادق الجيش الأوكراني حول الإقليم، فيما يبدو تصعيداً واضحاً ضد جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، التي يعيش على أراضيها 400 ألف مواطن يحملون الجنسية الروسية، وهو ما يشير إلى استفزازات أوكرانية، لا تنتظر سوى إشارة البدء من الأسياد في واشنطن.
تؤكد التوقعات أن مناورات “حامي أوروبا 2021” التي سيجريها الناتو في مايو ويونيو القادمين هي الأكبر للحلف منذ زمن الحرب الباردة.
فلنضع ما سبق إلى جانب استهداف مفاعل نطنز النووي في إيران، ومحاولات عرقلة التفاوض بشأن العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وكذلك السعي إلى استهداف نتائج مسار أستانا في سوريا، ومحاولات إحداث شرخ بين دول أستانا (روسيا وإيران وتركيا)، وما يحدث الآن من تجدد الاشتباكات في شمال شرقي سوريا، وتدخل القوات الأمريكية في هذه المنطقة.
ما نراه هو ببساطة محاولات غربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لاستعادة “الهيمنة” على العالم، استناداً إلى القوة العسكرية تارة، والدبلوماسية تارة أخرى، ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية تارة ثالثة. لا يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استوعبت دروس الماضي بعد، ولا نقول دروس فييتنام وإنما حتى دروس أفغانستان، التي تعجز عن الخروج من مستنقعها لعقود. تسعى الولايات المتحدة الأمريكية مجدداً إلى حل مشكلات الداخل الأمريكي، ومشكلات الاقتصاد، وحتى مشكلة جائحة “كورونا” وحرب اللقاحات، باستخدام “الفزاعة الروسية”، بعد أن استخدمت “الفزاعة السوفيتية” لعشرات السنين. لكن الاختلاف هذه المرة، أن الاستخدام يتم على نطاق شديد الاتساع والتنوع، ويفوق قدرات الولايات المتحدة والغرب بمراحل في ظل عالم مفتوح، ومنصات تواصل اجتماعي ووسائل إعلام قادرة في كثير من الأحيان على تخطي عواقب الرقابة والحجب. كذلك فإن أوهام الديمقراطية والحرية لم تعد تنطلي على أحد، وأصبح من السهل دحضها وكشف زيفها.

لقد أعلن وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، يوم 23 أبريل، عن اختتام اختبارات الاستعداد القتالي لقوات المنطقتين العسكريتين الجنوبية والغربية، وأمر بعودة العسكريين الذين شملتهم الاختبارات إلى مواقع تمركزهم. وأكّد شويغو على تحقيق الاختبارات لجميع أهدافها بالكامل، وأن القوات الروسية سترد بشكل مناسب على أي تطورات قرب حدود البلاد.
وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد صرح خلال رسالته السنوية، بأن صاروخ “سارمات” الباليستي العابر للقارات، سيدخل إلى الخدمة في القوات المسلحة الروسية في عام 2022، وهو صاروخ قادر على ضرب أهداف عبر القطبين الشمالي والجنوبي وبمقدوره اختراق أي منظومة للدفاع الصاروخي، ويصل مداه إلى 18 ألف كلم.
لكن روسيا لا ترغب ولا تأمل في أن تضطر إلى القوة، لا ضعفاً، وإنما إيماناً منها بقدرة الدبلوماسية الحقيقية، والسياسة النزيهة على تجاوز جميع الحواجز، والمصاعب، والخلافات. روسيا لا زالت تؤمن بأن جميع الأزمات الإقليمية والدولية من الممكن حلها حول طاولات التفاوض، وفي إطار القانون الدولي وتحت رعاية هيئة الأمم المتحدة والمنظمات واللجان التابعة لها، كان ذلك ويظل سبيلاً وحيداً تراه روسيا الأنسب والأسلم دائماً لحل المنازعات.
وتتطلع موسكو الى أن تجد مبادرة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الأخيرة وقبلها اقتراح الرئيس بوتين للقاء قمة بين القوتين العظمتين، مكاناً على أرض الواقع قبل أن تفسدها مهاترات صغار الـ “تاباكي”، وألعابهم السياسية الرديئة والعنينة.

رامي الشاعر
كاتب ومحلل سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى