روسياسورية

مخاطر عقلية “هايلي لايكلي”!

رامي الشاعر
كاتب ومحلل سياسي
اتصل أحدهم يشكو من “تحريض الجيش الروسي للشعب السوري”، استناداً إلى صفحة على موقع “فيسبوك” تحمل عنوان “القناة المركزية للجيش الروسي”.

الصفحة موجودة بالفعل باسم “القناة المركزية للجيش الروسي” تقول في مدونة نشرت يوم أمس أن السكان المحليين في مدينة منبج “ينتفضون ضد الوحدات الكردية، ويسيطرون على بعض المناطق وسط اشتباكات عنيفة”.
وجاء في الصفحة المزعومة “نراقب الأوضاع الأمنية وندعم أي تحرك يدعم وحدة الأراضي السورية ويطرد الميليشيات المسلّحة المعارضة للحكومة السورية”.

يتابع الصفحة 47 ألفا، ونشرت في 30 مايو، تدوينة عن “فرص عمل في دول الخليج متاحة لجميع الأعمار من كافة الدول.. الرواتب تبدأ من …”!

فهل يعقل أن تكون من بين مهام الجيش الروسي، الإعلان عن وظائف في دول الخليج؟! ثم هل يعقل أن يتورّط الجيش الروسي في نيران صراع جاء بالأساس لينهيه ويعيد الهدوء لسوريا والمنطقة، وهل يمكن أن يلجأ جيش الدولة العظمى لمثل هذه الألاعيب الرخيصة التي لا تليق بأي من جيوش العالم؟

بالطبع هذا لم ولن يحدث. وقد أكدّت مصادر موثوقة من قيادة مركز حميميم بأنه لا علاقة للجيش الروسي بهذه الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، وصرح المصدر بأن هذه الصفحات وغيرها من ابتكارات “لندن” وتهدف إلى تشويه صورة الجيش الروسي أمام السوريين، في الوقت الذي يعتمد ملايين السوريين على الجيش الروسي إلى جانب الجيش العربي السوري وقوات الأمن المحلية في تأمين الاستقرار، علاوة على ما يبذله مركز المصالحة الروسي في سوريا من مجهودات، وما تمثّله مناطق التهدئة ووقف إطلاق النار على الأراضي السورية من منجز حقيقي يمكن البناء عليه.

وعلى ذكر العاصمة البريطانية، ودورها المناهض لروسيا، فنحن نذكر جميعاً مصطلح “هايلي لايكلي” Highly Likely، والذي يعني حرفياً “من المرجّح بشدة”، بعد أن استخدمته رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، تيريزا ماي، خلال خطاب أمام مجلس العموم، اتهمت فيه روسيا بالتورط في تسميم العميل المزدوج، سيرغي سكريبال، قائلة: “من المرجح بشدة أن تكون روسيا وراء عملية التسميم”!

لتنتشر هذه العبارة على نطاق واسع، وتكتسب شهرة بعد التصريح، خاصة وأنها بالفعل أصبحت تعبّر عن “عقلية” وجملة سياسات يتبعها الغرب تجاه روسيا، اعتماداً على استنتاجات، وتكهنات، وافتراضات لا أساس لها من الصحة، ولا يوجد دليل مادي واحد عليها، سوى تصريحات المسؤولين، وربما أحياناً الحملات الصحفية المغرضة.

في هذا السياق صرح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يوم 31 مايو، خلال مؤتمر حول العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي، بأن “عقلية هايلي لايكلي تطبق اليوم في الغرب في جميع المواقف”، بينما تتدخل دول الاتحاد بشكل علني في الشؤون الداخلية لروسيا، وشركائها الاستراتيجيين، وتتجاهل الدول الغربية مبادئ القانون الدولي، التي تلجأ هي نفسها إليها أحياناً.

إن الحرب الهجينة Hybrid warfare تعني، ضمن تعريفاتها، الأعمال العدائية التي لا يلجأ فيها العدو إلى غزو عسكري كلاسيكي، وإنما إلى العمليات السرية والتخريب والحرب الإلكترونية وتقديم الدعم للمتمردين في الداخل.

فلم يعد استخدام المدفع والدبابة ضرورياً في القرن الواحد والعشرين، أصبح كافياً أن تنشر إشاعة على موقع “فيسبوك” أو “تويتر”، أو ربما تنشر صورة منزوعة من سياقها، أو تختلق موقفاً وهمياً ملفّقاً من مجموعات مدرّبة، فتتلقفها المواقع وتنشرها انتشاراً فيروسياً خلال ساعات محدودة، لتصبح حديث الميديا، وتخرج من إطار مواقع التواصل الاجتماعي إلى حيز وسائل الإعلام، ثم إلى حيز السياسة، والشأن العام، وربما تكون نواة لأحداث مؤثرة.

أصبح من السهل أن تشتري خط هاتف باسم مجهول، وتسجل بريداً إلكترونياً تفتح من خلاله صفحة أو صفحات، وتقول إن هذه الصفحة تحمل اسم “الجيش الروسي” أو أي جيش أو تنظيم أو جماعة أو كتيبة أو لواء، وتستقطب ضحاياك لا من السذّج وحدهم، وإنما أيضاً من المخضرمين، الذين قد تنطلي عليهم هذه الحيل والألاعيب التي أصبحنا نعيش في عالمها، ونعاني الأمرّين في استيضاح الحقيقة، واستخراجها من بين ركام كل هذا الزيف والكذب والخداع والغش.

الآن، دعونا نتذكر “رشا غيت”، وما سمي بـ “فضيحة التدخل في الانتخابات الأمريكية”، ثم اتهامات “القرصنة الإلكترونية”، ثم “تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني”، بينما نتابع اقتراحات بريطانية بفرض عقوبات على روسيا بسبب واقعة هبوط طائرة “ريان إير” في مطار مينسك والقبض على المعارض البيلاروسي، رومان بروتاسيفيتش، منذ أيام، بدعوى أن روسيا متورطة في هذا الشأن.

مؤخراً، يدور الحديث عما يسمونه “مرتزقة فاغنر”، وهي شركة أمنية روسية خاصة، لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالحكومة الروسية، أو بالجيش الروسي. يتحدثون عنها اليوم في كافة وسائل الإعلام بوصفها “باباً خلفياً” لمشاركة روسيا في عمليات عسكرية في أوكرانيا وسوريا وليبيا.

فهل تحتاج روسيا لغطاء كي تتدخل عسكرياً؟ إن السياسة الروسية واضحة وشفافة، وروسيا لا تتدخل في الشأن الداخلي لأي من الدول، دون طلب رسمي من هذه الدول، ودون خطة واضحة ومحكمة لنطاق وطبيعة العمليات، والهدف منها، وفوق وقبل كل شيء استناداً للمصالح الروسية العليا وأولويات الأمن القومي الروسي. لذلك نجد القيادة الروسية لا تأبه لهذه الترهات، ولا إلى ما تلوكه الألسنة في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي حول “تورط” روسيا في ليبيا.
فروسيا على علاقة طيبة مع جميع الأطراف في المنطقة، وأهدافها تتلخص في الاستقرار والأمن وازدهار منطقة الشرق الأوسط التي طالما عانت ولا تزال من ويلات الحروب والأزمات. فلا الحروب الهجينة ولا عقليات “هايلي لايكلي” يمكن أن تؤثر في الخط السياسي الواضح لروسيا سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في أوروبا أو في أي مكان حول العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى